الصالحون الصالحون
الصالحون

آخر الأخبار

الصالحون
random
جاري التحميل ...
random

مكانة الصحابة رضي الله عنهم في الأمة

 

مكانة الصحابة رضي الله عنهم في الأمة


أ. د. مصطفى حلمي
 

تخبرنا كتب التاريخ وصحائفه عن اكتمال الفهم والمعرفة لأصول الدين جميعًا لدى الصحابة - رضي الله عنهم - وكان ذلك بفضل طاعتهم للآيات القرآنية التي حثتهم على التدبر في غير موضع، مثل قوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾ [ص: 29] وعلى العكس وصف الكفار والمنافقين بالإعراض عن تدبره في مثل قوله تعالى عز وجل: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24] قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82] ومعنى ذلك أن معانيه مما يمكن للكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها فهي إذن ممكنة للمؤمنين أيضًا، ويدل على أن معانيه كانت معروفة بينة لهم.
 
وأيضًا فإن الله - عز وجل - بين أنه أنزل القرآن عربيًا لكي يعقلوه ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2] والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه. وذم من لا يفقهه ﴿ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 78] فلو كان المؤمنون لا يفقهونه لاصطفوا في صف واحد مع المنافقين والكفار الذين ضرب لهم مثلًا بقوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 171] فكيف إذن يمكن وضع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بمنزلة الكفار الذين ذمهم الله في أكثر من موضع؟ لأنهم أعرضوا عن تدبر القرآن واتبعوا أهواءهم، فقال تعالى في وصفهم: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [محمد: 16].
 
ويضيف شيخ الإسلام ابن تيمية إلى كل هذه الأدلة، ما ثبت عن كل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس أنه نقل عنهما من التفسير ما لا يحصيه إلا الله فقال ابن مسعود: (لو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته).
 
وجاء التابعون فتعلموا التفسير من الصحابة، قال مجاهد: عرضت المصحف على أبي عباس من أوله إلى آخره، أقف عند كل آية وأسأل عنها (ولهذا قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به[1] فالأصل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ الرسالة كما أمر ولم يكتم منها شيئًا تنفيذًا لقوله تعالى:﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44] وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67] وقد أخبر الله بأنه قد أكمل الدين، وقال الرسول صلوات الله عليه: ((ما تركت من لشيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، وما من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به)).
 
وبناء على هذا الأصل، فإنه كما تبين لنا أوضح كافة الأصول الإسلامية مما أخبر به الله تعالى من أسماء الله وصفاته، مما جاء في القرآن وشرح وبيَّن لأصحابه هذه الأصول كلها كأحسن ما يكون البيان. قال أبو ذر: (لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا إذا ذكر لنا منه علمًا).
 
وكان الصحابة حريصين على الفهم والاستيعاب الدقيق الكامل لكل ما يتعلمونه من القرآن والحديث، فإن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل (قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا) وقام عبد الله بن عمر يحفظ سورة البقرة في ثمان سنين لاستغراقه في المعرفة والفهم[2].
 
وكانت أم الدرداء تصف زوجها بأن أفضل عمله التفكر[3] وعلى العكس من هذه الحقيقة، فإن الادعاء بان الصحابة كانوا مشغولين بالجهاد.. كما يذكر بعض المتكلمين، فإنه يحمل في طياته ذم الصحابة، بل يجعلون مذهب السلف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ قرآنًا لا يفهم معناه، بل تكلم بأحاديث الصفات وهو لا يفهم معناها، وأن جبريل كذلك وأن الصحابة والتابعين كذلك وهذا الموقف- كما يذكر ابن تيمية - ضلال عظيم[4].
 
وشرح ذلك للتاج إلى مزيد من الإيضاح، نذكره فيما يلي:
منهج الصحابة في النظر والتدبر:
لقد خاطب الإسلام العقل كما رأينا ودعا الإنسان إلى النظر في آثار مخلوقات الله تعالى، وقد مضى عصر الصحابة في الصدر الأول على هذا المنهج القرآني الواضح وكان قدوتهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده في النظر والسلوك، حيث عاشوا معه وشاهدوا التنزيل وقالوا واستفسروا عما يعن لهم من قضايا لختام إلى شرح وإيضاح.
 
وهكذا استمدوا من كتاب الله تعالى معرفة وحدانية الله تعالى، وإثبات صفاته، وعرفوا الأنبياء والرسل - عليهم السلام - وقصصهم مع أقوامهم، ووقفوا منه على أصل خلق آدم - عليه السلام - وعداوة إبليس له ولبنيه، وعرفوا مكانة الملائكة وأدوارهم من بين مخلوقات الله تعالى، واستمدوا معلوماتهم عن اليوم الآخر وحساب الله تعالى وجنته وناره والقدر وخيره وشره إلى غير ذلك من القضايا التي تشكل أركانًا رئيسية وأصولًا في الإيمان. وكلها جمعها القرآن الكريم - كما يرى الزركشي في أقسام ثلاثة: توحيد وتذكير وأحكام فالتوحيد تدخل فيه معرفة المخلوقات ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله، والتذكير ومنه الوعد والوعيد والجنة والنار وتصفية الظاهر والباطن، والأحكام ومنها التكاليف كلها وتبين المنافع والمضار والأمر والنهي والندب. فالأول ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [البقرة: 163] فيه التوحيد كله في الذات والصفات والأفعال والثاني: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، والثالث: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ [المائدة: 49][5].
 
وقد خط لهم القرآن الكريم الاستدلال بمخلوقات الله تعالى على وحدانيته سبحانه وعلمه وحكمته. فإنها جميعًا تبرهن على أن لها صانعًا حكيمًا خبيرًا تام القدرة بالغ الحكمة، كما دعاهم إلى آثار الصنعة في أنفسهم أيضًا: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21] إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة الدالين على وجود الصانع الحكيم[6].
 
ونهاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن التفكر في الخالق - جل شأنه - فجاء في الأثر (تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق)، وتعليل النهي أنه سبحانه ليس كمثله شيء (فالتفكر الذي مبناه على القياس ممتنع في حقه. وإنما هو معلوم بالفطرة. فيذكره العبد)[7].
 
كذلك جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسنته كمصدر ثان للإسلام ولذلك أصبح المنهج الصحيح يقتضي معرفة سنته وتنفيذها، فمن كان أعلم بسنته وأتبع لها كان الصواب معه، وهذه الأوصاف تنطبق على الصحابة - صلى الله عليه وسلم - ثم الأجيال التالية من أهل الحديث والسنة (وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله ولا يضافون إلا إليه، وهو أعلم الناس بسنته وأتبع لها، لكن التفرق والاختلاف كثير في المتأخرين)[8].
 
وبهذه الطريقة وضعوا الأسس السليمة للمنهج الصحيح في معرفة أصول الدين وفروعه، فمن أراد إذن معرفة شيء من الدين والكلام فيه، نظر فيما قاله الله والرسول - صلى الله عليه وسلم -. فمنه يتعلم وبه يتكلم وفيه ينظر ويتفكر وبه يستدل. فهذا أصل منهج أهل السنة.
 
أما المخالفون لهذا المنهج، فلم يراعوا قاعدته ولم يلتزموا بخطواته إذ أنهم بدلًا من البدء بالنظر فيما قاله الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، بدأوا بما رأوه بعقولهم كما فعل المتكلمون، أوذاقوه بوجدانهم - كما فعل الصوفية - فإذا وجدوا السنة توافقه وإلا لم يبالوا بذلك، فإذا وجدوها تخالفه، أعرضوا عنها تفويضًا أو حرفوها تاويلًا[9]. وهذه الصورة المخالفة للمنهج الإسلامي الصحيح كثيرا ما نراها في عصرنا أيضًا. فبسبب ضغوط ثقافة الغرب وحضارته، وعلى إثر انتصاره العسكري والسياسي وتفوقه العلمي ونفوذه الثقافي، وتأثيره الساحر على العقول والنفوس في مقابل ضآلة المعرفة بالإسلام وأصوله وفروعه، نجم عنه أن أصبح الكثيرون يتبنون الأفكار والفلسفات الغربية ويعطونها شكلًا إسلاميًا، ظانين بذلك أنهم يدافعون عنه ويقدمونه إلى الأجيال الشابة في ثوب عصري[10].

 

[1] ابن تيمية: "الفتاوى الكبرى" ج 5 ص 157 و 151 ط الرياض.
[2] ابن تيمية: الفتاوى الكبرى ج 5 ص 155، 156.
[3] نقض المنطق ص 87.
[4] شرح "أسباب النزول للواحدي" ص 65.
[5] الزركشي: البرهان في علوم القرآن ج 1 ص 17 ط الحلبي 1957 م.
[6] السيوطي: صون المنطق ج 1 ص 143.
[7] ابن تيمية: نقض المنطق ص 35.
[8] ابن تيمية: منهاج السنة ج 3 ص 46.
[9] ابن تيمية: الفرقان بين الحق والباطل ص 47.
[10] كالقول مثلًا بديمقراطية النظام الإسلامي أو اشتراكيته وتحرر نظمه وقابليته للتطور وغيرها من المصطلحات اللصيقة بفلسفة الغرب وحضارته وتاريخه، ولا مدلولاتها ومعانيها المختلفة تمامًا عن مقابلها في الإسلام بعقيدته وشريعته وتاريخه وحضارته.


التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

الصالحون

2016